فصل: ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر تعذيب المستضعفين من المسلمين:

وهم الذين سبقوا إلى الإسلام ولا عشائر لهم تمنعهم ولا قوة لهم يمنعون بها، فأما من كانت له عشيرة تمنعه فلم يصل الكفار إليه، فلما رأوا امتناع من له عشيرة وثبت كل قبيلة على من فيها من مستضعفي المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من يتصلب في دينه ويعصمه الله منهم.
فمنهم: بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضاً، وهو من مولدي السراة، وكنيته أبو عبد الله، فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد. فيقول: أحد أحد والله يا بلال. ثم يقول لأمية: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً. فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته فأبعدته. فقال: عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي، وهو بطن من مراد- وعنس هذا بالنون-، أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلاً، أسلم هو وصحيب في يوم واحد، وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم، فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء، فمر بهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل، فطعنها في قلبها بحربة في يديه فماتت، وهي أول شهيد في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر على صدره أخرى وبالتغريق أخرى، فقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً وتقول في اللات والعزى خيراً، ففعل، فتركوه، فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبكي. فقال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا. قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى: {إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} النحل: 106؛ فشهد المشاهد كلها مع رسول الله وقتل بصفين مع علي وقد جاوز التسعين، قيل بثلاث، وقيل بأربع سنين.
ومنهم: خباب بن الأرث، كان أبوه سوادياً من كسكر، فسباه قوم من ربيعة وحملوه غل مكة فباعوه من سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة، وسباع هو الذي بارزه حمزة يوم أحد، وخباب تميمي، وكان إسلامه قديماً، قيل سادس ستة قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، فأخذه الكفار وعذبوه عذاباً شديداً، فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف، وهي الحجارة المحماة بالنار، ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه، وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونزل الكوفة، ومات سنة ست وثلاثين.
ومنهم: صهيب بن سنان الرومي، ولم يكن رومياً، وإنما نسب إليهم لأنهم سبوه وباعوه، وقيل: لأنه كان أحمر اللون، وهو من النمر بن قاسط، كناه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا يحيى قبل أن يولد له، وكان ممن يعذب في الله، فعذب عذاباً شديداً. ولما أراد الهجرة منعته قريش، فافتدى نفسه منهم بماله أجمع، وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهله الشورى، وتوفي بالمدينة في شوال من سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة.
وأما عامر بن فهيرة فهو مولى الطفيل بن عبد الله الأزدي، وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان، أسلم قديماً قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وكان من المستضعفين يعذب في الله، فلم يرجع عن دينه، واشتراه أبو بكر وأعتقه، فكان يرعى غنماً له، وكان يروح بغنم أبي بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وإلى أبي بكر لما كانا في الغار، وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما، وشهد بدراً وأحداً، واستشهد يوم بئر معونة وله أربعون سنة. ولما طعن قال: فزت ورب الكعبة؟! ولم توجد جثته لتدفن مع القتلى، فقيل: إن الملائكة دفنته.
ومنهم: أبو فكيهة، واسمه أفلح، وقيل يسار، وكان عبداً لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلاً وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل فقال له أمية: أليس هذا ربك؟ فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنقاً شديداً، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه.
وقيل: إن بني عبد الدار كانوا يعذبونه، وإنما كان مولى لهم، وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى دلع لسانه فلم يرجع عن دينه، وهاجر ومات قبل بدر.
ومنهم: لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها، ويقول: إني لم أدعك إلا سآمةً، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: زنيرة، وكانت لبني عدي، وكان عمر يعذبها، وقيل: كانت لبني مخزوم، وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت، فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك. فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما؟ ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
زنيرة بكسر الزاي، وتشديد النون، وتسكين الياء المثناة من تحتها، وفتح الراء.
ومنهم: النهدية، مولاة لبني نهد، فصارت لامرأة من بني عبد الدار فأسلمت، وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: أم عبيس، بالباء الموحدة، وقيل عنيس، بالنون، وهي أمة لبني زهرة، فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
وكان أبو جهل يأتي الرجل الشرير ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك! ويقبح رأيه وفعله ويسفه حلمه ويضع شرفه، وإن كان تاجراً يقول: ستكسد تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به حتى يعذب.

.ذكر المستهزئين ومن كان أشد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم:

وهم جماعة من قريش فمنهم عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، كان شديداً عليه وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى، فكان يطرح العذرة والنتن على باب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان جاره، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أي جوارٍ هذا يا بني عبد المطلب! فرآه يوماً حمزة فأخذ العذرة وطرحها على رأس أبي لهب، فجعل ينفضها عن رأسه ويقول: صاحبي أحمق! وأقصر عما كان يفعله لكنه يضع من يفعل ذلك.
وما أبو لهب بمكة عند وصول الخبر بانهزام المشركين ببدر بمرض يعرف بالعدسة.
ومنهم: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو ابن خال النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان من المستهزئين، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى. وكان يقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد! وما أشبه ذلك. فخرج من أهله فأصابه السموم فاسود وجهه، فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه، فرجع متحيراً حتى مات عطشاً. وقيل: إن جبرائيل أومأ إلى السماء فأصابته الأكلة فامتلأ قيحاً فمات.
ومنهم: الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي، كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن الغيطلة، وهي أمه، وكان يأخذ حجراً يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني. وكان يقول: قد غر محمد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، وفيه نزلت: {أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ}؛ وأكل حوتاً مملوحاً فلم يزل يشرب الماء حتى مات، وقيل: أخذته الذبحة، وقيل: امتلأ رأسه قيحاً فمات.
ومنهم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وكان الوليد يكنى أبا عبد شمس، وهو العدل، لأنه كان عدل قريش كلها، لأن قريشاً كانت تكسو البيت جميعها وكان الوليد يكسوه وحده، وهو الذي جمع قريشاً وقال: إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد فتختلف أقواكم فيه، فيقول هذا: ساحرٌ، ويقول هذا: كاهنٌ، ويقول هذا: شاعرٌ، ويقول هذا: مجنون، وليس يشبه واحداً مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه ساحر لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته. وقال أبو جهل: لئن سب محمدٌ آلهتنا سببنا إلهه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْر عِلْمٍ} الأنعام: 108. ومات بعد الهجرة بعد ثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون، وكان مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له فوطئ على سهم منها فخدشه، ثم أومأ جبرائيل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه، فأوصى إلى بنيه أن يأخذوا ديته من خزاعة، فأعطت خزاعة ديته.
ومنهم: أمية وأبي ابنا خلف، وكانا على شر ما عليه أحد من أذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه، جاء أبي إليه، صلى الله عليه وسلم، بعظم فخذ ففته في يده وقال: زعمت أن ربك يحيي هذا العظم، فنزلت: {قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} يس: 78. وصنع عقبة بن أبي معيط طعاماً ودعا إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أحضره حتى تشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فقام معه. فقال له أمية بن خلف: أقلت كذا وكذا؟ فقال: إنما قلت ذلك لطعامنا، فنزلت: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} الفرقان: 27. وقتل أمية يوم بدر كافراً، قتله خبيب وبلال، وقيل: قتله رفاعة بن رافع الأنصاري. وأما أخوه أبي فقتله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، رماه بحربة فقتله.
ومنهم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وكان ممن يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويعين أبا جهل على أذاه، قتله حمزة يوم بدر.
ومنهم: العاص بن وائل السهمي، والد عمرو بن العاص، وكان من المستهزئين، وهو القائل لما مات القاسم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم: إن محمداً أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل: {إنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} الكوثر: 3. فركب حماراً له فلما كان بشعبٍ من شعاب مكة ربض به حماره فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير، فمات منها بعد هجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ثاني شهر دخل المدينة وهو ابن خمس وثمانين سنة.
ومنهم: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، يكنى أبا قائد، وكان أشد قريش في تكذيب النبي، صلى الله عليه وسلم، والأذى له ولأصحابه. وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى، وسمع بذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرب مبعثه، فقال: إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فنزلت: {وَأقْسَمُوا بِاللِه جَهْد أيَمانِهِمْ}؛ الآية. وكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين، فنزل فيه عدة آيات. أسره المقداد يوم بدر وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بضرب عنقه، فقتله علي بن أبي طالب صبراً بالأثيل.
ومنهم: أبو جهل بن هشام المخزومي، كان أشد الناس عداوةً للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم أذىً له ولأصحابه، واسمه عمرو، وكنيته أبو الحكم، وأما أبو جهل فالمسلمون كنوه به، وهو الذي قتل سمية أم عمار بن ياسر، وأفعاله مشهورة، وقتل ببدر، قتله ابنا عفراء، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
ومنهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وكانا على ما كان عليه أصحابهما من أذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والطعن عليه، وكانا يلقيانه فيقولان له: أما وجد الله من يبعثه غيرك؟ إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر. فقتل منبه، قتله علي بن أبي طالب ببدر، وقتل أيضاً العاص بن منبه بن الحجاج، قتله أيضاً علي ببدر، وهو صاحب ذي الفقار، وقيل منبه بن الحجاج صاحبه، وقيل نبيه. نبيه بضم النون، وفتح الباء الموحدة.
ومنهم: زهير بن أبي أمية أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وكان ممن يظهر تكذيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويرد ما جاء به ويطعن عليه إلا أنه ممن أعان على نقض الصحيفة. واختلف في موته فقيل: سار إلى بدر فمرض فمات، وقيل: أسر ببدر فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما عاد مات بمكة، وقيل: حضر وقعة أحد فأصابه سهم فمات منه، وقيل: سار إلى اليمن بعد الفتح فمات هناك كافراً.
ومنهم: عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ويكنى أبا الوليد، وكان من أشد الناس أذىً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوة له وللمسلمين، عمد إلى مكتل فجعل فيه عذرة وجعله على باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبصر به طليب بن عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي، وأمه أروى بنت عبد المطلب، فأخذ المكتل منه وضرب به رأسه وأخذ بأذنيه، فشكاه عقبة إلى أمه فقال: قد صار ابنك ينصر محمداً. فقالت: ومن أولى به منا؟ أموالنا وأنفسنا دون محمد. وأسر عقبة ببدر فقتل صبراً، قتله عاصم بن ثابت الأنصاري، فلما أراد قتله قال: يا محمد من للصبية؟ قال: النار. قتل بالصفراء، وقيل بعرق الظبية، وصلب، وهو أول مصلوب في الإسلام.
ومنهم: الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان من المستهزئين، ويكنى أبا زمعة، وكان أصحابه يتغامزون بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر، ويصفرون به ويصفقون، فدعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمى ويثكل ولده، فجلس في ظل شجرة فجعل جبرائيل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها وبشكوها حتى عمي، وقيل: أومأ إلى عينيه فعمي فشغله عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقتل ابنه معه ببدر كافراً، قتله أبو دجانة، وقتل ابن ابنه عتيب، قتله حمزة وعلي اشتركا في قتله، وقتل ابن ابنه الحارث بن زمعة بن الأسود، قتله علي، وقيل: هو الحارث بن الأسود، والأول أصح، وهو القائل:
أتبكي أن يضلّ لها بعيرٌ ** ويمنعها من النّوم السّهود

ومات والناس يتجهزون إلى أحد وهو يحرض الكفار وهو مريض.
ومنهم: طعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، يكنى أبا الريان، وكان ممن يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويشتمه ويسمعه ويكذبه، وأسر ببدر، وقتل كافراً صبراً، قتله حمزة.
ومنهم: مالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشان من المستهزئين، وكان سفيهاً، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشار جبرائيل إلى رأسه فامتلأ قيحاً فمات.
ومنهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، كان شديد العداوة، لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب، فإن صرعتني علمت أنك صادق، ولم يكن يصرعه أحد، فصرعه النبي، صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ودعاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الإسلام، فقال: لا أسلم حتى تدعو هذه الشجرة. فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أقبلي، فأقبلت تخد الأرض. فقال ركانة، ما رأيت سحراً أعظم من هذا، مرها فلترجع، فأمرها فعادت. فقال: هذا سحر عظيم.
هؤلاء أشد عداوة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن عداهم من رؤساء قريش كانوا أقل عداوة من هؤلاء، كعتبة وشيبة وغيرهما، وكان جماعة من قريش من أشد الناس عليه فأسلموا، تركنا ذكرهم لذلك. منهم: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة لأبيها، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن حرب، والحكم بن العاص، والد مروان، وغيرهم، أسلموا يوم الفتح.

.ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة:

ولما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله، عز وجل، وعمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم قال: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه.
فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، فخرج عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي، صلى الله عليه وسلم، معه، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزبير العوام، وغيرهم تمام عشرة رجال، وقيل: أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان.
وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه لما رأى مباعدة قومه له شق عليه وتمنى أن يأتيه الله بشيء يقاربهم به، وحدث نفسه بذلك، فأنزل الله: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} النجم: 20؛ فلما وصل إلى قوله: {أفَرَأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأخْرَى}؛ ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت ذلك قريش سرهم والمسلمون مصدقون بذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يتهمونه ولا يظنون به سهواً ولا خطأً. فلما انتهى إلى سجدة سجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة، فإنه لم يطق السجود لكبره، فأخذ كفاً من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس. وبلغ الخبر من بالحبشة من المسلمين أن قريشاً أسلمت، فعاد منهم قوم وتخلف قوم، وأتى جبرائيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قرأ، فحزن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخاف، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبيٍّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطَانُ في أمْنّيِتِهِ} الحج: 52؛ فذهب عنه الحزن والخوف.
واشتدت قريش على المسلمين، فلما قرب المسلمون الذين كانوا بالحبشة من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفياً، فدخل عثمان في جوار أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، فأمن بذلك، ودخل أبو حذيفة بن عتبة بجوار أبيه، ودخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة، ثم قال: أكون في ذمة مشركٍ! جوار الله أعز، فرد عليه جواره، وكان لبيد بن ربيعة ينشد قريشاً قوله:
ألاّ كل شيءٍ ما خلا الله باطل

فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فلما قال:
وكلّ نعيمٍ لا محالة زائل

قال: كذبت! نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا ولا كان السفه من شأنكم. فأخبروه خبره وخبر ذمته، فقام بعض بني المغيرة فلطم عين عثمان، فضحك الوليد شماتةً به حيث رد جواره، وقال لعثمان: ما كان عن هذا! فقال: إن عيني الأخرى لمحتاجة إلى مثل ما نالت هذه. فقال له: هل لك أن تعود إلى جواري؟ قال: لا أعود إلى جوار غير الله. فقام سعد بن أبي وقاص إلى الذي لطم عين عثمان فكسر أنفه، فكان أول دم أريق في الإسلام في قولٍ.
وأقام المسلمون بمكة يؤذون، فلما رأوا ذلك رجعوا مهاجرين إلى الحبشة ثانياً، فخرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة، فكمل بها تمام اثنين وثمانين رجلاً، والنبي، صلى الله عليه وسلم، مقيمٌ بمكة يدعو إلى الله سراً وجهراً، فلما رأت قريشٌ أنه لا سبيل لها إليه رموه بالسحر والكهانة والجنون وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا أن يسمع قوله، وكان أشد ما بلغوا منه ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: حضرت قريشٌ يوماً بالحجر فذكروا النبي، صلى الله عليه وسلم، وما نال منهم وصبرهم عليه، فبينما كذلك إذ طلع النبي، صلى الله عليه وسلم، ومشى حتى استلزم الركن، ثم مر بهم طائفاً، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها ثم الثالثة، فقال: أتسمعون يا معشر قريش؟ والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح. قال: فكأنما على رؤوسهم الطير واقعٌ حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد. وانصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ عقبة ابن أبي معيط بردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي: ويلكم! {أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} غافر: 28 ثم انصرفوا عنه. هذا أشد ما بلغت عنه.

.ذكر إرسال قريش إلى النجاشي في طلب المهاجرين:

لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم: إن ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم، وخافا إن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم. فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. فغضب من ذلك وقال: لا والله لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان، فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذين فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعاه لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام. وعدد عليه أمور الإسلام، قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا وقمنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطراً من كهيعص، فبكى النجاشي وأساقفته، وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما أبداً! فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً يبيد خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي أمية، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاماً.
فلما كان الغد قال للنجاشي: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود. فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم. وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم. ورد هدية قريش وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه. وأقام المسلمون بخير دار.
وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه، فعظم ذلك على المسلمين، وسار النجاشي إليه ليقاتله، وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره، وهم يدعون له، فاقتتلوا، فظفر النجاشي، فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره.
قيل: إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني، أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره، وكان له عم قد أولد اثني عشر ولداً، فقالت الحبشة: لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهراً. فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حيناً، وبقي النجاشي عند عمه، وكان عاقلاً، فغلب على أمر عمه، فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه، فقالوا لعمه: إما أن تقتل النجاشي وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه. فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كرهٍ منه، فخرجوا إلى السوق فباعواه من تاجر بستمائة درهم. فسار به التاجر في سفينته. فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة، ففزعت الحبشة إلى أولاده، فإذا هم لا خير فيهم، فهرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم: والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي، فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه.
فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه. وجاء التاجر وقال لهم: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه. فقالوا: كلمه. فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال. فقال النجاشي: إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء. فأعطوه دراهمه؛ فهذا معنى قوله. فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه.
قال: ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نوراً.